منذ كنت صغيرا كنت اقرا عن الخط الاخضر في الصحف (ربما بجيل 10) , لم اكن ادرك معناه و لكني كنت افترض ان له اهمية كبيرة و لولاها لما تكرر ذكره كل هذه المرات. كانت كلمة الاخضر تستر في ايناعها كلمة الخط فكنت اعتبر المصطلح "صديقا"
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------
ادركت لاحقا ان الخط الاخضر يحوي خطوطا اخرى لا يمكن لعرب داخل الخط الاخضر تجاوزها:الطموحات الوطنية -القومية- الدينية- الاقتصادية - وحتى الفكرية
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------
عندما كبرت قليلا اتضح لي ان الخط الاخضر ما هو الا حدود تفصل بين فلسطين 48 و 67 . وتحول دون التقاء ابناء الشعب الواحد .و قبل سنة تقريبا سنّت الصهيونية قرارا ببرلمانها لفصل العائلات المكونة من اباء او امهات يسكنون خارج الخط الاخضر.
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------
ومع ان لكل خط نهاية فان نهاية الخط الاخضر للاسف هي بداية خطوط جديدة : الحدود مع باقي الدول العربية. ولا يمكن للمرء اجتياز هذه الخطوط وكان لسان حال عرب داخل الخط الاخضر :"وجعلنا من بين ايديهم خطا و من خلفهم خطا , فحصرناهم فهم لا ينطلقون".
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------
لا يمكن لعرب داخل الخط الاخضر مثلا ان يسافروا الى لبنان التي تنتج حوالي 30% من الكتب العربية (تنتج مصر 30% و باقي العرب ينتجون الباقي) و تبعا لذلك لا يمكنهم التحليق في سماء الفكر , و لا يمكنهم السفر الى سوريا و معظم الدول العربية
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------
ومنذ ان اكتشفت سر الخط الاخضر اخذت اكرهه و اكره لخضاره خضرة الخضار . و حتى ان خط يدي اصبح يسوء تدريجيا - على الرغم من تطوع الاستاذ كمال لتقديم دورة خط رقعة لثلة من طلاب كدرستنا الابتدائية- احتجاجا على الاستخدامات اللاانسانية للخطوط .
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------
وحتى اني اغبط بعض اصدقائي الذين يمتلكون قدرات تخطيطية لوضع برنامج يومهم , فاحد اصدقائي يحسب مسار الباص الاجدر بسلوكه بناءا على القوائم الزمنية لسفر الباصات . اما انا فاضيع داخل كرة الخطوط و الخيوط و اعلق فيها كما تعلق الذبابة بشبكة العنكبوت
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------
اجتزت الخط الاخضر... نعم اجتزته بالطائرة الى المانيا . اجتزت في تلك الرحلة ايضا البحر وشتى الحدود و الخطوط. كان شعوري كشعور السجين المحرّر .
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------
وعندما كنت انظر الى الاسفل كنت ارى الدول من غير حدود ..مجرد اراض فحسب. وبعدها اخذت ارى الثلوج تغطي جميع اوروبا وتوحدها في دولة واحدة وعملة واحدة , اتضح فيما بعد ان هذه ليست ثلوجا بل غيوما تفصل بيني و بين التضاريس! اه لكم اكره الحدود و الغيوم
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------
في برلين رايت اول شرطي خارج المطار في اليوم الثالث , و كان للامر مغزى كبير لمن يفارق القدس المقسمة الى حواجز تفتيش في مداخل البنايات و الشوارع و سائر المرافق, و تجوب فيها كل انواع التقنيات و الالات و الالات البشرية لرسم الحدود
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------
ولكن حياة من غير تخطيط يقال انها غير ممكنة..
كانت امي قد ارسلت لي قبل شهر وعاء زيت من فلسطين. و اختفت اثاره بين حانا البريد السريع و مانا البريد الالماني , و بما ان للرقم 3 في الخرافات نكهة خاصة , فلنضيف ايضا : و الجمارك الالمانية
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------
كنت احاول ان اعلم امرا واحدا فقط: اين وعاء الزيت؟
ولم انجح على مدى اكثر من شهر من تحديده , حاولت الجمع بين الخطوط الثلاثة اعلاه لحل اللغز و لكن لم يكن اي منهما على استعداد للانحراف عن خطه الفكري: يتصرف الموظف الالماني و كأنه معزول عن باقي نظراءه , لدرجة اني عندما راسلت احدى الجامعات الالمانية اخذت استلم رسائلا من مكتبين مختلفين بجامعة فرانكفورت:مكتب الطلاب الاجانب و مكتب طلاب الدراسات المتقدمة . وكان هذا يطلب الاوراق التي تنقصه و التي عادة ما تكون لدى المكتب الثاني.وكانوا يطلبون مني الاستفسار عن الاوراق بنفسي في المكتب الثاني و كأنهم يعيشون قطيعة بيروقراطية. الى ان اقترحت عليهم الخروج عن الخط الفكري و التنسيق فيما بينهم
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------
"ولكنها امي" قلت بانفعال لموظف الجمارك الذي اقترح علي وكأنه يقرا من كتاب"يجب على مرسل الطرد البريدي ان يقدم شكوى من بلد الارسال الى البلد المرسل اليه بشأن اختفاء اعقاب الطرد البريدي " , ثم اردفت" هل يمكنني انا ان اقدم الشكوى هنا باسمها؟" . نظر الموظف الى زميله مستغربا و قالا معا "يمكنك ان تفحص هذه الامكانية و لكننا لا نعرف بالضبط"
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------
مللت من الخطوط الجوية و الجمركية و الحدودية و خرجت من الجمارك في طريقي الى كلية طب الاسنان
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------
اخذت انظر بحنق الى الخطوط المرسومة على الشوارع والبنايات , الاحرف و الكلمات و كل شيء خطي
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------
ولكن قطار الشارع (شتراسن بان) الالماني لم يمهلني طويلا . فاخذ يقترب مني بكل تحد و هو يسير على خطه الحديدي المغروز في الشارع, كان صرير عجلاته الحديدية و احتكاكه بسكّته وانحرافاته غير المرنة تسبب شعورا بالضيق لراكبه بسبب ضعف قدرته على امتصاص الرجّات و الاهتزازات و لو كانت طفيفة , وكذلك كان يثير نفس القطار شعورا بالضيق للمشاهد.. كنت افضل ان اركب باصا ينحرف بمرونه و ان اضع روحي على كفة سائق الباص على ان اركب قطار الشوارع هذا
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------
وعندما وصلت الى الكلية صعدت الى غرف العلاج الطلابية . حوالي 30 كوّة كل منها لطالب و زميله المساعد , 30 كوّة مرتبة على شكل... خط مستقيم!يا الهي!
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------
و المرشدون يركضون من اولها الى اخرها تماما مثل الافكار في العقل الالماني من غير قدرتها على تجاوز كوّة ما. و للمقارنة فان الكّوات الطلابية في الجامعة العبرية (و ليس العربية) في القدس مرتبة على شكل عناقيد يحوي كل منها 4 كوات , و تنتشر الكوات حول مركز القاعة و الذي يشكّل عاصمة القاعة لاحتوائه على مجلس للمرشدين و المواد الطبية ووو , ان كوّات الجامعة العبرية تناظر طريقة التفكير اليهودية المبدعة
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------
لكم وددت ان اصعد على قمة الافرست و اصرخ بكل قطرة من دمي:" اني اكره الخطووووط ... فلتسقط جميع الخطووووط"
.... ... ....... . .. ........ ....
و ليردد الافرست و جميع الجبال و الناس و كثير من الدواب نفس النداء